مالي بين فاغنر والجيش: قراءة كيسنجرية في صراع الساحل
1. لماذا مالي؟
يقول هنري كيسنجر: «إنّ الأزمات الصغيرة قد تتحوّل إلى محرّك للتوازنات الكبرى إذا كانت الجغرافيا تسمح».
مالي تقع في قلب الساحل الإفريقي، حيث يتقاطع الإرهاب العابر للحدود، الذهب، اليورانيوم، والنفوذ الدولي. ولذلك، فإن الخلاف بين بعض الجنود الماليين و”فاغنر” ليس مجرد نزاع داخلي، بل علامة على تصادم استراتيجيات دولية في فضاء هشّ.

2. البعد الأمني – أزمة احتكار العنف
منذ 2021، لجأت باماكو إلى “فاغنر” لسدّ فراغ انسحاب القوات الفرنسية والأممية. لكن دخول المرتزقة أحدث ثلاث هزّات:
1. تآكل الشرعية العسكرية: الجنود الماليون شعروا بأن المرتزقة يتلقون معاملة تفضيلية، وأن أوامرهم تتجاوز القادة المحليين.
2. تسليح بلا سيادة: كثير من المعدات الثقيلة وُضعت تحت إدارة فاغنر، ما خلق تبعية أمنية كاملة.
3. انقسام الجيش: رويترز أشارت إلى توقيف أكثر من 30 جنديًا بتهمة محاولة زعزعة الاستقرار، وهو ما يعكس عمق الشرخ داخل المؤسسة العسكرية.
في فلسفة كيسنجر، احتكار الدولة للعنف هو الركيزة الأولى للسيادة. وحين تتقاسمها مع فاعلين خارجيين، تصبح دولة بالوكالة أكثر من كونها دولة مستقلة.

3. البعد السياسي – معركة النفوذ داخل باماكو
• الرئيس عاصمي غويتا يحاول أن يحكم قبضته على القرار الوطني، مستندًا إلى خطاب سيادي وشعبوي.
• وزير الدفاع ساديو كامارا، مهندس دخول فاغنر، تراجع نفوذه بعد أن قيد غويتا الامتيازات الاقتصادية الروسية، خصوصًا في قطاع التعدين.
الصراع إذن ليس بين مالي وروسيا فقط، بل داخل السلطة المالية نفسها:
• تيار يرى أن باماكو بحاجة إلى الحماية الروسية مهما كان الثمن.
• وتيار آخر يريد أن يوازن عبر تقليص الاعتماد على موسكو وفتح الباب أمام قنوات مالية غربية.
هذا الانقسام هو ما يسميه كيسنجر «أزمة القرار الاستراتيجي»: دولة صغيرة مضطرة للاختيار بين راعٍ خارجي وآخر، بينما تفقد حرية الحركة كلما طالت فترة الأزمة.

4. البعد الاقتصادي – الذهب مقابل الدم
مالي ليست فقيرة من الموارد:
• هي ثالث أكبر منتج للذهب في إفريقيا.
• تملك احتياطيات يورانيوم ومقدرات زراعية ضخمة.
لكن هذه الثروة صارت جزءًا من لعبة النفوذ:
• فاغنر حاولت أن تربط الأمن بالاقتصاد عبر عقود تعدين لصالحها.
• الغرب عاد عبر صندوق النقد والبنك الدولي لفرض شروط مالية على باماكو.
• الصين تراقب من بعيد فرص الاستثمار في الذهب واليورانيوم كجزء من استراتيجيتها الإفريقية.
في لغة كيسنجر: «كل قوة كبرى ترى في الموارد الإفريقية سلاحًا في معادلة الطاقة والاقتصاد العالمي». وهكذا تحولت مناجم الذهب في كاي وكوليكورو إلى رهائن صراع جيوسياسي.

5. البعد الإقليمي – الساحل بين النيجر وبوركينا فاسو
مالي ليست وحدها:
• في النيجر، أطاح انقلاب 2023 بالوجود الفرنسي، ثم بدأ نقاش شبيه حول دور القوات الروسية.
• في بوركينا فاسو، يسيطر إبراهيم تراوري على الحكم مستعينًا بخطاب ثوري معتمد على الدعم الروسي.
لكن المقارنة تكشف فروقات:
• تراوري في بوركينا يبدو أكثر قدرة على فرض قيادة موحدة للجيش.
• النيجر ما تزال رهينة لصفقات اليورانيوم والنفط مع الغرب.
• أما مالي فهي الأكثر هشاشة بسبب عمق الانقسامات داخل جيشها.
كيسنجر كان سيقرأ هذه اللوحة باعتبارها «فراغ قوة» (Power Vacuum) في الساحل، تتسابق موسكو وواشنطن وباريس وبكين لملئه.

6. التوازنات الدولية – موسكو وواشنطن وباريس
• موسكو: انسحاب “فاغنر” في يونيو 2025 كان شكليًا، إذ سرعان ما عادت عبر “أفريكا كوربس” التابعة للكرملين.
• واشنطن: لم تعد موجودة عسكريًا، لكنها تعمل عبر الضغط الاقتصادي والدبلوماسي لإضعاف روسيا.
• باريس: جُرحت بعد طردها من الساحل، لكنها لم تفقد نفوذها المالي عبر شركات التعدين.
• بكين: تمضي بخطوات هادئة، مستفيدة من ارتباك الآخرين لتوسيع استثماراتها.
هذه ليست مجرد لعبة مصالح؛ إنها إعادة توزيع للنفوذ الدولي في إفريقيا. وكما قال كيسنجر: «إفريقيا ليست لاعبًا، بل ملعبًا تُدار فوقه المباريات الكبرى».

7. السيناريوهات المستقبلية
1. استقرار بالقوة: غويتا ينجح في إعادة بناء ولاء الجيش ويحتفظ بروسيا كشريك أمني محدود، ما يمنحه سنوات من الهدوء النسبي.
2. انقلاب جديد: استمرار الانقسام داخل الجيش قد يقود إلى حركة تمرد أو انقلاب عسكري جديد يعيد خلط الأوراق.
3. صفقة دولية: باماكو قد تعقد تفاهمًا مع الغرب: دعم مالي مقابل تقليص النفوذ الروسي، على غرار “سياسة الموازنة” التي اشتهر بها كيسنجر في السبعينيات.
4. انفجار داخلي: إذا فشل الجيش في ضبط الأمن، قد يتمدد الإرهاب الجهادي من جديد، فيسقط الساحل في فوضى شاملة.

8. خاتمة – الدرس الكيسنجري
من منظور كيسنجر، ما يحدث في مالي هو درس بليغ:
• الدول حين تفقد احتكارها للأمن تصبح أدوات في يد اللاعبين الكبار.
• الذهب واليورانيوم يصبحان أثمن من الدم، لأنهما أوراق مساومة على طاولة القوى الكبرى.
• التوازن في الساحل لن يتحدد داخل باماكو فقط، بل في موسكو وواشنطن وباريس وبكين.
وبالعودة إلى مقولة كيسنجر الشهيرة: «من لا يملك السيطرة على أوراق لعبه، يصبح ورقة في يد الآخرين». مالي اليوم ورقة تتقاذفها الأيدي، لكن مستقبلها يتوقف على سؤال واحد: هل يستعيد الجيش المالي زمام المبادرة، أم يظل مجرد جندي إضافي في لعبة الأمم؟
1. لماذا مالي؟
يقول هنري كيسنجر: «إنّ الأزمات الصغيرة قد تتحوّل إلى محرّك للتوازنات الكبرى إذا كانت الجغرافيا تسمح».
مالي تقع في قلب الساحل الإفريقي، حيث يتقاطع الإرهاب العابر للحدود، الذهب، اليورانيوم، والنفوذ الدولي. ولذلك، فإن الخلاف بين بعض الجنود الماليين و”فاغنر” ليس مجرد نزاع داخلي، بل علامة على تصادم استراتيجيات دولية في فضاء هشّ.

2. البعد الأمني – أزمة احتكار العنف
منذ 2021، لجأت باماكو إلى “فاغنر” لسدّ فراغ انسحاب القوات الفرنسية والأممية. لكن دخول المرتزقة أحدث ثلاث هزّات:
1. تآكل الشرعية العسكرية: الجنود الماليون شعروا بأن المرتزقة يتلقون معاملة تفضيلية، وأن أوامرهم تتجاوز القادة المحليين.
2. تسليح بلا سيادة: كثير من المعدات الثقيلة وُضعت تحت إدارة فاغنر، ما خلق تبعية أمنية كاملة.
3. انقسام الجيش: رويترز أشارت إلى توقيف أكثر من 30 جنديًا بتهمة محاولة زعزعة الاستقرار، وهو ما يعكس عمق الشرخ داخل المؤسسة العسكرية.
في فلسفة كيسنجر، احتكار الدولة للعنف هو الركيزة الأولى للسيادة. وحين تتقاسمها مع فاعلين خارجيين، تصبح دولة بالوكالة أكثر من كونها دولة مستقلة.

3. البعد السياسي – معركة النفوذ داخل باماكو
• الرئيس عاصمي غويتا يحاول أن يحكم قبضته على القرار الوطني، مستندًا إلى خطاب سيادي وشعبوي.
• وزير الدفاع ساديو كامارا، مهندس دخول فاغنر، تراجع نفوذه بعد أن قيد غويتا الامتيازات الاقتصادية الروسية، خصوصًا في قطاع التعدين.
الصراع إذن ليس بين مالي وروسيا فقط، بل داخل السلطة المالية نفسها:
• تيار يرى أن باماكو بحاجة إلى الحماية الروسية مهما كان الثمن.
• وتيار آخر يريد أن يوازن عبر تقليص الاعتماد على موسكو وفتح الباب أمام قنوات مالية غربية.
هذا الانقسام هو ما يسميه كيسنجر «أزمة القرار الاستراتيجي»: دولة صغيرة مضطرة للاختيار بين راعٍ خارجي وآخر، بينما تفقد حرية الحركة كلما طالت فترة الأزمة.

4. البعد الاقتصادي – الذهب مقابل الدم
مالي ليست فقيرة من الموارد:
• هي ثالث أكبر منتج للذهب في إفريقيا.
• تملك احتياطيات يورانيوم ومقدرات زراعية ضخمة.
لكن هذه الثروة صارت جزءًا من لعبة النفوذ:
• فاغنر حاولت أن تربط الأمن بالاقتصاد عبر عقود تعدين لصالحها.
• الغرب عاد عبر صندوق النقد والبنك الدولي لفرض شروط مالية على باماكو.
• الصين تراقب من بعيد فرص الاستثمار في الذهب واليورانيوم كجزء من استراتيجيتها الإفريقية.
في لغة كيسنجر: «كل قوة كبرى ترى في الموارد الإفريقية سلاحًا في معادلة الطاقة والاقتصاد العالمي». وهكذا تحولت مناجم الذهب في كاي وكوليكورو إلى رهائن صراع جيوسياسي.

5. البعد الإقليمي – الساحل بين النيجر وبوركينا فاسو
مالي ليست وحدها:
• في النيجر، أطاح انقلاب 2023 بالوجود الفرنسي، ثم بدأ نقاش شبيه حول دور القوات الروسية.
• في بوركينا فاسو، يسيطر إبراهيم تراوري على الحكم مستعينًا بخطاب ثوري معتمد على الدعم الروسي.
لكن المقارنة تكشف فروقات:
• تراوري في بوركينا يبدو أكثر قدرة على فرض قيادة موحدة للجيش.
• النيجر ما تزال رهينة لصفقات اليورانيوم والنفط مع الغرب.
• أما مالي فهي الأكثر هشاشة بسبب عمق الانقسامات داخل جيشها.
كيسنجر كان سيقرأ هذه اللوحة باعتبارها «فراغ قوة» (Power Vacuum) في الساحل، تتسابق موسكو وواشنطن وباريس وبكين لملئه.

6. التوازنات الدولية – موسكو وواشنطن وباريس
• موسكو: انسحاب “فاغنر” في يونيو 2025 كان شكليًا، إذ سرعان ما عادت عبر “أفريكا كوربس” التابعة للكرملين.
• واشنطن: لم تعد موجودة عسكريًا، لكنها تعمل عبر الضغط الاقتصادي والدبلوماسي لإضعاف روسيا.
• باريس: جُرحت بعد طردها من الساحل، لكنها لم تفقد نفوذها المالي عبر شركات التعدين.
• بكين: تمضي بخطوات هادئة، مستفيدة من ارتباك الآخرين لتوسيع استثماراتها.
هذه ليست مجرد لعبة مصالح؛ إنها إعادة توزيع للنفوذ الدولي في إفريقيا. وكما قال كيسنجر: «إفريقيا ليست لاعبًا، بل ملعبًا تُدار فوقه المباريات الكبرى».

7. السيناريوهات المستقبلية
1. استقرار بالقوة: غويتا ينجح في إعادة بناء ولاء الجيش ويحتفظ بروسيا كشريك أمني محدود، ما يمنحه سنوات من الهدوء النسبي.
2. انقلاب جديد: استمرار الانقسام داخل الجيش قد يقود إلى حركة تمرد أو انقلاب عسكري جديد يعيد خلط الأوراق.
3. صفقة دولية: باماكو قد تعقد تفاهمًا مع الغرب: دعم مالي مقابل تقليص النفوذ الروسي، على غرار “سياسة الموازنة” التي اشتهر بها كيسنجر في السبعينيات.
4. انفجار داخلي: إذا فشل الجيش في ضبط الأمن، قد يتمدد الإرهاب الجهادي من جديد، فيسقط الساحل في فوضى شاملة.

8. خاتمة – الدرس الكيسنجري
من منظور كيسنجر، ما يحدث في مالي هو درس بليغ:
• الدول حين تفقد احتكارها للأمن تصبح أدوات في يد اللاعبين الكبار.
• الذهب واليورانيوم يصبحان أثمن من الدم، لأنهما أوراق مساومة على طاولة القوى الكبرى.
• التوازن في الساحل لن يتحدد داخل باماكو فقط، بل في موسكو وواشنطن وباريس وبكين.
وبالعودة إلى مقولة كيسنجر الشهيرة: «من لا يملك السيطرة على أوراق لعبه، يصبح ورقة في يد الآخرين». مالي اليوم ورقة تتقاذفها الأيدي، لكن مستقبلها يتوقف على سؤال واحد: هل يستعيد الجيش المالي زمام المبادرة، أم يظل مجرد جندي إضافي في لعبة الأمم؟