حصار أنيور… ومنفى فكالي: الكرامة والتصوف والخليفة الذي يتهيأ
منفى فكالي… جذر الكبرياء
آل حماه الله لم يكونوا بيتًا عابرًا في تاريخ هذه الأرض. جدُّهم الشيخ حماه الله الكبير حمل رسالة صوفية لم تُساوم على الكرامة. وحين حاول المستعمر الفرنسي استيعابه، أبى، فكان النفي نصيبه: من باماكو إلى كوتونو، وأخيرًا إلى فكالي قرب داكار. هناك ظن الفرنسيون أنهم قد عزلوا الصوت الذي دوّى في الصحراء، لكنهم اكتشفوا أن الجسد يمكن حبسه، أما الرموز فلا تُسجن. ظل الشيخ حاضرًا في ذاكرة أتباعه، فاشتدّت شوكتهم، وأصبح بيته بيت رجال وسيوف وكرامة.
محمدو… تسعيني في قلب الحصار
في هذا الامتداد نشأ الشيخ محمدو ولد الشيخ حماه الله، الذي تجاوز التسعين، لكنه ظلّ سدًّا في وجه الزمن. واليوم، وهو يعيش حصار أنيور، رفض أن يغادر رغم العروض المغرية، متمسكًا بمريديه ومدينته. قراره كان امتدادًا لصدى أبيه في فكالي: أن الانسحاب خيانة، وأن الشيخ آخر من يترك الميدان.
الخليفة الذي يتهيأ
لكن السنين تمضي، والمرحلة تفرض أسئلتها. في الخلفية يتهيأ اسم أحمد ولد شريف أحمد ولد شيخنا حماه الله. رجل وقور، رزين، يستمد قوته من نسبٍ اختبر المنفى والحصار وظلّ واقفًا. وإذا كانت مالي – كما نعرف – بلدًا تحكمه العواصف، فإنها تحتاج إلى شخصية جامعة، لا إلى لاعب جديد في صخب السياسة. وهنا بيت القصيد: يجب أن تُحسم الخلافة والشيخ محمدو ما يزال موجودًا، لأن تركها معلّقة يفتح أبواب الخلاف، ومالي لا تحتمل فراغًا جديدًا.
التصوف… سدّ التسامح بين الطوائف
كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن الحركات الصوفية. فجأة صار التصوف عند بعض الدعاة تهمة، وصار المريدون في نظرهم مجرد أتباع ضالين، وكأن موريتانيا لم تُعرف أصلًا إلا بزواياها ومحاظرها. الحقيقة أن هذه البلاد لم تحافظ على توازنها الاجتماعي قرونًا إلا بفضل شبكة المشايخ والعلماء والمتصوفة.
صحيح أن في التصوف انغلاقًا وتوريثًا ومبالغة في كرامات الشيوخ، لكنه ظلّ – رغم علّاته – آخر قلعة في وجه المد الوهابي والتكفيري. لم يحدث في تاريخ موريتانيا أن دعا شيخ صوفي إلى تفجير سوق أو قتل جار، أما فتاوى الدم فنعرف جيدًا من أين جاءت.
لقد أنجبت هذه الأرض رجالًا من المتصوفة كانوا حصونًا للمجتمع: الشيخ سيديا الكبير، الشيخ محمد فاضل، الشيخ سيدي المختار الكنتي، الشيخ حماه الله، وغيرهم. هؤلاء لم يرفعوا السلاح في وجوه المسلمين، بل رفعوا الكلمة، وزكّوا النفوس، وربّوا الأجيال. التصوف لم يكن غريبًا عن المجتمع الموريتاني، بل كان عموده الفقري: علّم الناس القرآن، وصان العربية، وزرع قيم التواضع والتسامح بين الطوائف.
بين أوراد الصوفية ورصاص التكفير
الخرافة تُناقَش وتُصلَح، أما الرصاصة فلا علاج لها إلا الدم. والمجتمع إذا خُيّر بين “أوراد الصوفية” و“رصاص الوهابية”، فالعقل السليم يختار الصوفية، ولو كأخف الضررين. الجزائر نزفت دمًا عقدًا كاملًا حين تمدد الفراغ، ومالي ما زالت تنزف، ونيجيريا ابتلعتها “بوكو حرام”. أما نحن في موريتانيا فنجونا نسبيًا لأن الزوايا والتصوف شكّلا حائط صدّ أمام الفوضى.
خاتمة
بين منفى فكالي وحصار أنيور، ظلّت الرسالة واحدة: الكرامة لا تُباع، والتصوف ليس بدعة بل حصن. واليوم، حين يُذكر اسم أحمد ولد شريف أحمد ولد شيخنا حماه الله، فإنما يُذكر بوصفه الخليفة الذي يتهيأ: امتدادًا لسلسلة لم تنكسر، من جدٍّ نُفي، إلى ابنٍ تسعيني حوصر، إلى خليفة وقور يستعد لحمل الأمانة… حتى لا يتحوّل الصرح إلى فراغ، وحتى لا تبتلع الفوضى ما تبقى من توازن.