

في ظهيرة يوم قائظ على أطراف الهضبة الموريتانية، وقعت أولى الحوادث التي ستغيّر وجه الصحراء لعقود. هناك، في مدينة تيجكجه، سقط العقيد الفرنسي كزافييه كبولاني (Xavier Coppolani) قتيلًا برصاصة واحدة، أنهت ما وصفه الأرشيف الفرنسي بـ”الحلم الاستعماري السلمي في موريتانيا”.


ولد كبولاني في الجزائر لأصول إيطالية، وبرز داخل الإدارة الاستعمارية الفرنسية بوصفه خبيرًا في شؤون القبائل والمسلمين. وحين أرادت باريس إدخال موريتانيا إلى خريطتها الإمبراطورية دون غزو دموي، أرسلته عام 1902 كمفوض سامٍ، بمهمة واضحة: السيطرة على الأرض عبر الزوايا، لا البنادق.
وضع الرجل خطة جريئة:
• تحييد القبائل الحربية عبر زعماء الطرق الصوفية.
• بناء “تحالف ديني-سياسي” مع شيوخ التيجانية والقادرية.
• تمزيق البنية القبلية الداخلية بتغذية الصراعات بين إمارات الساحل.
وثائق وزارة المستعمرات الفرنسية – والتي رُفعت عنها السرية في الثمانينيات – تظهر إعجابًا كبيرًا بكبولاني. وُصف بأنه “الرجل الذي يعرف كيف يتكلم العربية… ويُصغي للفقهاء”.


في وثيقة سرية مؤرخة بيوم الحادث (12 مايو 1905)، نقلت البرقية التالية إلى باريس من الحاكم العسكري لساوث سانت لويس:
“العقيد كبولاني تعرّض لهجوم أثناء خروجه من قاعة الاستقبال في تيجكجه. أصيب برصاصة في الذراع اليمنى اخترقت إلى صدره… حاول طبيب البعثة إسعافه لكنه توفي بعد نصف ساعة. الجناة من المحاربين المنتمين لتحالف قبلي رفض الدخول في النظام الفرنسي.”
وتُظهر برقية لاحقة أن القاتل الأساسي يُدعى “سيدي ولد مولاي الزين”، أحد المجاهدين المحليين الذين رأوا في سياسة كبولاني تهديدًا مباشرًا للسيادة الإسلامية على المنطقة.


ما بين 13 و21 مايو، جُهّزت حملة عسكرية بقيادة الليفتنانت كولونيل “مونتانييه”، وانطلقت وحدات محمولة على ظهور الجمال من سينلوي إلى الداخل الموريتاني.
الوثائق الفرنسية تصف الحالة بـ”أزمة تمثيل”، حيث شكّلت وفاة كبولاني ضربة نفسية كبيرة لمشروع “الاختراق السلمي”. تحوّل الأمر إلى مواجهة مفتوحة:
• قُصفت قرى بالكامل في ضواحي تيجكجه.
• اعتُقل عشرات من رجال الزوايا بحجة التواطؤ.
• وتم تدشين نظام عسكري صارم بدلًا من الإدارة الدينية المرنة.


في تقرير غير منشور من مديرية الشؤون السياسية في وزارة المستعمرات (نُقل لاحقًا إلى أرشيف Nantes الفرنسي)، نجد ملاحظة مذهلة:
“لقد بالغ كبولاني في تقدير استعداد الزوايا للتحالف معنا. إن الزهد لا يعني الخضوع… والمصحف قد يكون أخطر من البندقية.”
وهكذا، تحوّل حلم “الاختراق السلمي” إلى وهم، وأدركت باريس أن السيطرة على موريتانيا تتطلب أكثر من التعاويذ… إنها تحتاج الجيوش.


مقتل كبولاني لم يكن فقط اغتيال رجل، بل إعادة توجيه كاملة للسياسة الفرنسية في الصحراء. بعد وفاته:
• تم تقسيم موريتانيا إداريًا إلى دوائر عسكرية.
• بدأ تهميش الزعامات الدينية.
• ووُضع الحجر الأساس لأول خريطة استعمارية لـ”موريتانيا الفرنسية”.
ولعلّ المثير، أن وثائقًا لاحقة في عام 1911 تتحدث عن “ضرورة محو اسم كبولاني من الخطاب الرسمي”، خوفًا من أن يتحوّل إلى شهيد معادٍ بدلًا من بطل استعمار.


• أرشيف وزارة المستعمرات الفرنسية، ملف رقم 905/XC، باريس.
• برقيات عسكرية من الحامية الفرنسية في تيجكجه – المحفوظة لدى Centre des archives d’outre-mer – Aix-en-Provence.
• تقرير ألكسندر دولورم، المستشار السياسي للبعثة الفرنسية في الساحل، 1906.
• مقابلة منشورة في Le Monde diplomatique (1985) حول مآلات مشروع كبولاني.
سلسلة: موريتانيا في الأرشيف الفرنسي
بالاعتماد على أرشيف وزارة المستعمرات الفرنسية 1905، ووثائق القيادة العسكرية الفرنسية في إفريقيا الغربية