النخبة الموريتانية: بين الغياب والانسحاب
منذ الاستقلال سنة 1960، والمجتمع الموريتاني يبحث عن “نخبة” تؤطره وتدله على الطريق. لكن ما حصل في الواقع أن النخبة، بدل أن تكون بوصلة، صارت مرآة مشوشة تعكس صراعها مع السلطة أكثر مما تعكس مشروعًا للوطن.
في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كانت النخبة الناشئة موزعة بين موظفين صعدوا في الإدارة بفضل إرث المستعمر الفرنسي، وبين مثقفين عرب قادمين من المشرق بكتبهم وشعاراتهم. كلاهما رفع راية مشروع: هؤلاء يتحدثون بلغة الجمهورية الفرنسية، وأولئك بلغة القومية العربية. لكن حين اصطدموا بالواقع الموريتاني، تراجعت الشعارات أمام المصالح، وغلبت لغة الولاء على لغة الفكر.
محمد يحظيه كتب يومًا: “النخبة عندنا تكتب عن الأمة، لكنها لا تواجه جرحها المفتوح.” كان يقصد أن القضايا الكبرى ـ مثل العبودية، العدالة، الهوية ـ لم تُحسم لأنها لم تجد نخبة شجاعة تطرحها بجدية. النخبة السياسية فضلت القرب من القصر على القرب من الناس، والنخبة الفكرية اكتفت بالكتابة في الصحف أو الخطابة في الصالونات دون أن تتحول إلى فعل اجتماعي منظم.
قصة من الماضي
في أواخر الثمانينات، استدعى الرئيس معاوية ولد الطايع وزيرًا مثقفًا كان يُنظر إليه يومها كصوت مختلف. جلس الرجل في القصر ساعات طويلة، ثم خرج صامتًا. في اليوم التالي، أعلن عن تعيينه في منصب جديد. الصحف الرسمية كتبت عن “الثقة الرئاسية”، بينما جلس أصدقاؤه القدامى يتحسرون على خسارة صوت نقدي كان يملأ الندوات. منذ ذلك اليوم، لم يكتب الوزير مقالًا واحدًا، ولم يلقِ خطابًا خارج أسوار السلطة. وكأن القصر ابتلع النخبة، وحوّل المثقف إلى موظف.
هذه الحكاية ليست استثناء، بل مثال على عشرات من المثقفين الذين دخلوا اللعبة ثم صمتوا، أو خرجوا منها منسحبين بلا أثر.
في الثمانينات والتسعينات، تكررت نفس المعضلة. بعض المثقفين دخلوا البرلمان أو الحكومة فصاروا “أبواقًا رسمية” أكثر منهم “ضمائر وطنية”. والبعض الآخر انسحب إلى عزلته، يكتب مقالات نارية أو نصوصًا غامضة، لكن تأثيرها ظل محدودًا. وهنا يطل صوت حبيب ولد محفوظ ساخرًا: “النخبة عندنا لا تُشبه مثقف أوروبا ولا زعيم أفريقيا… إنها أشبه بظل يختفي حين تشتد الشمس.”
ومع بداية الألفية، ومع صعود الديمقراطية المعلبة، بدا وكأن النخبة أصبحت جزءًا من “الديكور”. المعارضة تنتج بيانات متشابهة، والموالاة تردد خطبًا مكررة، بينما غابت المشاريع الفكرية الحقيقية. محمد فال ولد بلال كتب يومًا أن “غياب المشروع هو ما يجعل النخبة تتحول إلى مجموعة أفراد تبحث عن مواقع، لا عن وطن.”
اليوم، في 2025، نرى أن النخبة الموريتانية تقف بين خيارين:
• الغياب: حين تصمت عن القضايا الكبرى وتترك الشعب يواجه مصيره وحده.
• الانسحاب: حين تكتفي بدور المراقب الناقد من بعيد، بلا قدرة على التأثير أو الجرأة على المواجهة.
في قضايا مثل العبودية، التعدد القومي، التعليم، والفساد، لم تظهر النخبة كقوة اقتراح، بل كمجرد رد فعل متأخر. فيسبوك وتويتر اليوم ملآنان بجدالات حادة، لكن غياب النخبة يجعل النقاش يدور بلا بوصلة، فيتحول إلى مزيد من الانقسام بدل أن يفتح أفقًا للحل.
الخلاصة أن موريتانيا لا تعاني فقط من أزمة حكم، بل من أزمة نخبة. فالدولة التي لا تجد نخبة شجاعة تضع مشاريعها، تظل دولة مؤجلة، رهينة قرارات يومية ومصالح ضيقة. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل تستطيع النخبة أن تخرج من صمتها وانسحابها، وتتحول من مرآة مشوشة إلى بوصلة واضحة؟
